کد مطلب:309798 شنبه 1 فروردين 1394 آمار بازدید:270

القسمت 35


فاطمة حزینة.. وحیدة فی هذه الدنیا الغادرة.. غیّب التراب وجهاً كان یضی ء دنیاها و توقف قلب كان یملأ حیاتها أملاً....

رحلت أمّها وهی بعد صبیّة.. وهاهی تفقد أباها وهی فی عمر الربیع..

فقدت الأشیاء شفافیتها و بدت عاریة مقرفة. كانت تنظر إلی الجزیرة فتراها خضراء.. خضراء. تنظر بعینی محمد فتری البراعم تتفتح و الریاحین تفوح بالعطر.. والسماء تزخر بأجنحة الملائكة مثنی وثلاث و رباع و كلمات جبریل تملأ الفضاء. و لمّا أغمض الأب عینیه انطفأت كلّ الشموع.. انكفأت فوق صحون الحنّاء.. ذبلت الریاحین و غادر الربیع الجزیرة... واستیقظت الاصنام... فتحت عیونها الحجریة.. وانبعث خوار «عجل» فی «فدك».

العاصفة تهبّ عنیفة تدمّر كلّ شی ء.. ولو مرّت علی النجوم


لأطفأتها أو علی شجرة زیتون لاجتثتها من فوق الأرض... و فاطمة وحیدة.. لیس معها أحد سوی رجلها و قد أغمد «ذا الفقار» بعد ان وضعت الحرب أوزارها.. و سیّد الرجال یأبی أن تكون له فی الفتنة سیف.. سلاحه الصبر؛ و الصبر سلاح الأنبیاء.

لیس فی منزل فاطمة سوی صبیین ینتظران عودة جدّهما.. لیس فی منزل فاطمة سوی بنت صغیرة غارقة فی حزن سرمدی... بنت اسمها «زینب»؛ لیس فی منزل فاطمة أحد إلّا المستضعفون فبدا كقلعة مهجورة تحمل آثاراً لجبریل. ستهبّ العاصفة اعصاراً فیه نار و قد لاذ الخائفون فئراناً مذعورة فی جحورها.. ولیس هناك من سلاح إلّا الصبر... و الصبر له طعم كالحنظل لایعرفه إلّا المظلومون.

بدا علیّ ذلك الیوم كأسد جریح.. أسد مثقل بالقیود و السلاسل.. و أصعب ما یواجه الرجل من ضیم أن یری امرأته مقهورة وحیدة و هو موثق الأیدی... كان علیّ یدرك ما یدور فی الخفاء... شمّ منذ أمد بعید رائحة المؤامرة و لم یكن فی مقدوره أن یفعل شیئاً... كانت العناكب تحوك شباكها لیل نهار. والسماء تكتظّ بقطع السحب السوداء، والقمر فی المحاق..

هبّت العاصفة، وهتف ابن صهاك، وقنفذ ینظر بعینین فیهما بریق شیطانی:


- یا علی اخرج و بایع كما بایع الناس.

لاذ الأسد بالصمت، و رفع ابن صهاك صوته بعصبیة:

- لتخرجنّ أو لأحرقن الدار.

هتف رجل مستنكراً:

- إن فیها فاطمة.

أجاب ابن صهاك.

- و إن!.

هتفت فاطمة بغضب:

- سرعان ما أغرتم علی أهل البیت.

ركل قنفذ الباب بوحشیة... وظهرت بنت محمّد فی قبضتها لواء المقاومة.. وجهها الأزهر مضمخ بعبیر النبوّات و كان حسن و حسین ینظران بدهشة إلی رجال كانوا بالأمس یبتسمون لهما و قد جاءوا الیوم یكشّرون عن أنیاب كالذئاب.

- أین أنت یا جدّاه.. هلمّ لتری ما یفعل أصحابك.

هتفت فاطمة بغضب الأنبیاء:

- اخلوا الدار.. و خلّوا عن ابن عمی..

ثم أردفت و هی تستنجد بالسماء:

- لئن لم تخلّوا عنه لانشرن شعری و لأصرخن إلی اللَّه.


هتف سلمان وقد رأی العذاب قاب قوسین أو أدنی:

- یا سیدتی! إن اللَّه بعث أباك رحمة. والتفت إلی عمر:

- خلوا عن علیّ فقد اقسم ألّا یخرج حتی یجمع القرآن.

انسحب الرجال أمام فتاة نحیلة الجسم كنخلة متواضعة.. لكنّها عمیقة الجذور.

ما تزال رایة المقاومة ترفرف فوق منزل فاطمة كطیف من رؤی النبوّات.

وقف التاریخ مشدوهاً قبالة منزل صغیر یضمّ فتاة نحیلة القوام.

وقف التاریخ خاشعاً أمام «فاطمة».. أمام فتاة عجیبة لم یرَ مثلها صفاءً لكأنها تنتمی إلی عالم آخر لایمت إلی عالم التراب بوشیجة.

قبس من نور یكاد ینفذ من أهاب جسد نحیل لكأن الملاك یوم ولدت تضرّع إلی ربّه:

- یا ربِّ اجعلها ثابتة كالجبل، مباركة كالنخیل، طاهرة كقطرات الندی، سیّدة كحوریة.

وقف التاریخ مذهولاً أمام فاطمة.. غیمة بیضاء تختزن الرعود... فهذه الفتاة التی تقف فی محرابها تتبتل إلی السماء حتی تكاد تفتت التراب لتصبح كوكباً درّیا.. تتسرب من بین الطین عائدة إلی عالم النور.


وقف التاریخ خاشعا امام فتاة تقضی جل وقتها تتأمل ملكوت السماء.. ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك... فتاة تنطوی ضلوعها علی قلب تضیع فیه الصحاری.

وقف التاریخ امام سیدة عظیمة هبت بوجه العاصفة؛ ولتكن «فدك» ارضا للصراع.